Monday, January 18, 2010

التعليم وصناعة القطيع


حملت لنا الأشهر القليلة الماضية عدة مواقف وتفاعلات شعبية غير منضبطة مع بعض الأحداث المختلفة التي اثرت في عموم الناس. أرجع بعض النقاد سبب التفاعل العشوائى على انه استجابه القطيع لمحفزات واستفزازات إعلامية موجهة ترتب عليها الانقياد الاعمى لعموم الشعب وراء العواطف والمشاعرالمستثارة. المثال الاكبرهو الإنفعال الزائد خلف الازمة المفتعلة بعد مباراة مصر والجزائر بالسودان فى تصفيات كأس العالم . المثال الاخر هو ما أسميته سابقا فوبيا أنفلونزا الخنازير أو الذعرالغير مبرر والغيرعلمي الذى آثر بشكل سلبى على أنشطة محورية فى مجتمعنا كالتعليم الانشطة الاجتماعية. يوجد أمثلة أخرى للانجراف الشعبى خلف العواطف بصورة عشوائية كرد الفعل الغير منضبط من إستشهاد المجند( أحمد شعبان) على الحدود المصرية الفلسطينية بدون انتظار لنتائج تحقيقات. والموقف الشعبي الغريب نتيجة مطالبة قناة الجزيرة الرياضية بحقوقها المالية فى صفقة بيع مباريات كأس الامم الافريقية بأنجولا.
يتخيل البعض أن العنصر الفاعل والمسبب والقائد لسلوك القطيع هو الاعلام الموجه فقط. ولكني أتحفظ على هذا الرأى لان الاعلام يمكن ان يكون هو المحفز الأول أو شرارة البدأ. أما السبب الحقيقي ووقود هذا السلوك الإنقيادي هو الثقافة العامة التى نتجت عن نظامنا التعليمي على مدار السنين. للأسف يتسبب نظامنا التعليمى فى تنشئة أجيال سهلة البرمجة، أجيال تعلم وتردد فقط ما يملى عليها، أجيال تستجيب ولا تناقش، أجيال تنفذ الأوامر حتى لو كانت خطأ. الشواهد من مناهجنا الدراسية وطرق التدريس الشائعة عندنا كثيرة . أٌركز فى هذا المقال فقط على كيفية تاثير النظام التعليمي على تنمية مهارة التفكير التى تؤثر بشكل مباشرعلى العقلية المتهمة بالانقياد.
تعتمد وسائل التقييم المصرية على اختبار ادنى مستوى من مستويات التفكير وهى الحفظ والقدرة على إسترجاع المعلومات. فى حين أن المدارس التربوية الحديثة خاصة الغربية منها اعتمدت فى تطوير وسائل التدريس والتقويم على نظرية بلوم "Bloom's Taxonomy" لتقسيم مستويات التفكير والتعلم. تقسم النظرية مستويات التعلم إلى ست مستويات: المستوى الأول هو مستوى المعرفة والقدرة على حفظ وإسترجاع المعلومات، المستوى الثاني هو مستوى الفهم والقدرة على تلخيض وشرح المعلومات، المستوى الثالث هو مستوى التطبيق والقدرة على إستخدام المعلومة وربطها بالواقع، المستوى الرابع هو مستوى التحليل والقدرة على تنظيم المعلومات ودراستها دراسة تدقيقية، المستوى الخامس هو مستوى الخلق والابتكار والقدرة على الاتيان بأفكار جديدة، أما المستوى الاعلى )المستوى السادس( هو مستوى التقييم والقدرة على الحكم على المعلومات كالنقض وإتخاذ القرارات.
يقوم التعليم الحديث بالتدريب على كل المهارات العقلية بمستوياتها المختلفة فى كل مراحل التعليم بإستخدام وسائل متنوعة للتقويم والتدريس. ومثال بسيط على استخدام هذه النظرية حتى فى مرحلة الحضانة هو رحلة الى حديقة الحيوان مثلا. يستطيع المدرس عند عودة الاطفال الى المدرسة ان يطلب فى مستوى التفكيرالاول وهو الحفظ ان يذكروا الحيوانات التى رأوها بالحديقة، وفى مستوى الفهم ان يقارنوا ما رأوه فى الحديقة مع قصة درسوها مسبقا عن الحيوانات، وفى مستوى التطبيق انه ما تعلموه عن القصة من وجود بداية ووسط ونهاية لكل قصة ان يطبقوه على رحلتهم للحديقة بان يجعلوا لقصة الرحلة بداية ووسط ونهاية. اما  على مستوى التحليل يمكن للاطفال ان يركزوا على لحظة بعينها فى الرحلة أثرت فيهم ويستفيضوا فى وصفها. وعلى مستوى الانشاء والابتكار يستطيعوا بمساعدة مدرسى الرسم والاشغال ان يبنوا او يرسموا حديقة حيوانات من وحى تجربتهم. وعلى مستوى التقييم يمكن ان يجيبوا على سؤال ماذا جعل هذه الرحلة مميزة مع ذكر السبب. سيجعلهم هذا قادرين على نقض التجربة ككل. النتيجة انه باستخدام نشاط بسيط يمكن ان يقوم به اي مدرس يستطيع ان يصل بعقل الطلبة الى ابعاد اعمق بكثير من الانشطة التقليدية.
بعد إعطاء هذا النموذج البسيط لأحد النظريات الأساسية التى يعتمد عليها التعليم الغربى فى كل عناصره سواء كانت فى المنهج الذى يضع مستهدفات تتناول المستويات المختلفة للتفكير أو فى إستخدام المدرس لوسائل مختلفة ليصل بالتلميذ إلى أبعاد أعمق فى التفكير، أو فى الكتب المستخدمة التى تتيح وتساعد المدرس والتلميذ على تناول المواضيع على مستويات مختلفة، او فى وسائل التقييم المتعددة التى لا تقيس فقط كم يحفظ الطالب بل تقيس أيضاً أين هو من مراتب التفكير المذكورة سابقاً.
الأهم من سرد الفوارق والنظريات التركيز على النتيجة المترتبة على هذا الإختلاف. فالنتيجة المترتبة على محورية مثل هذه النظرية فى النظام التعليمي الحديث لفترة طويلة من الزمن هو تخرج أجيال تربى تفكيرهم على عدم السطحية، أجيال تجعل كل مايقدم إليها يمر بمراحل مختلفة من الفهم والتحليل والتقييم مما يجعلهم متعلمين نشطين يتفاعلون مع المعلومات، يرفضون ما لا ينفعهم ويطبقون ما يتعلموه بل ويضيفون إلى العلم. أجيال تربت على التفكير الإبداعى والخلاق مما يدفعهم دوماً إلى التطوير والإنطلاق للاحسن والافضل. تختلف تماماً هذه الشخصية الخلاقة المبدعة عن الشخصية الداجنة المطيعة التى أقصى ما تستطيع أن تفعلة هو ما يملى عليها فقط.
هذه المقالة يمكن ان تصنف على أنها مقالة تحليلية تسلط الضوء على فوارق جوهرية بين التعليم المصري والتعليم الغربي. نستطيع من خلال هذه دراسة هذه القارنة أن نغير تدريجيا من نظامنا التعليمى وتغييرالثقافة العامة من ثقافة القطيع إلى ثقافة القادة المؤثرين. ولكن يستطيع القارىء العادى ايضا اذا كان مدرسا أو أباً  أو أماً أن يستخدم المقالة ليحدث فرقاً مع أولاده. وذلك عن طريق استعراض المستويات الستة للتفكير عند اي موقف تربوي او تعليمي ثم يسأل أسئلة إضافيه مقابلة لمستوى التفكير المرجو الوصول إليه. مع الوقت تدفع هذه الأسئلة الأطفال للإنتقال لمستوى أعلى من التفكير. كما يمكن ايجاد المزيد عن هذه النظرية وتطبيقاتها فى الكتب أو على الإنترنت.

1 comment: